هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 جمال الدين الأفغاني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Don2

Don2


عدد المساهمات : 279
النقـــآآط : ♥ : 1719
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/07/2013

جمال الدين الأفغاني Empty
مُساهمةموضوع: جمال الدين الأفغاني   جمال الدين الأفغاني Emptyالخميس أغسطس 29, 2013 1:57 pm

جمال الدين الأفغاني
باعث نهضة الشرق ( 1838 – 1897 ).
ظل الشرق قروناً عديدة رازحاً تحت نير الجمود الفكري ، والتأخر العلمي ، والاستعباد السياسي ، وبقي في سبات عميق ، إلي أن قيض الله له الحكيم الأفغاني " جمال الدين " ، فنفخ فيه روح اليقظة والحياة ، وأهاب بالنفوس أن تنهض وتتحرك ن وبالعقول ان تستيقظ ، وبالأمم والجماعات أن تتطلع إلي الحرية ، فكانت رسالته إلي الشرق مبعث نهضته الحديثة وإذا أردنا أن نتبين في كلمة عامة فضل جمال الدين ، ومدى الرسالة التي أداها ، فلنذكر أنه كان في حياته مصلحاً دينياً ، وفيلسوفاً حكيماً ، وزعيماً سياسياً ، فجمع بين الزعامات الروحية والفكرية ، والسياسية ، واضطلع بها معاً ، فأدى من الناحية الدينية مهمة الإصلاح والتجديد التي أدى مثلها مارتن لوثر للمسيحية ، وأهاب بالأمم الإسلامية أن تفهم الإسلام على حقيقته وترجع به إلي مبادئه الصحيحة ، وفطرته الأولى ، وتطهره من الأوهام والخرافات التي افضت إلي تأخر المسلمين. ومن الناحية الفكرية ، أدى المهمة التي قام بها في أوربا فلاسفة الفكر ، أمثال جان جاك روسو ومونتسكيو وغيرهما ، فعمل على إنارة البصائر ، وتوجيه الأفكار إلي البحث عن الحقائق ، وتحرير العقول من قيود الجمود والتقليد.
ترجع نهضة الأمم والدول إلى جهود المصلحين المخلصين من أبنائها الذين يسعون دائمًا إلى توحيد أبناء الأمة، وإيقاظ وعيهم بقضايا ومشكلات أمتهم، وتحريك همتهم نحو الإصلاح والتجديد، والوقوف صفًا واحدًا في وجه أطماع المستعمرين والطامعين.
وفي أواسط القرن التاسع عشر قام رجال مصلحون من أبناء الشرق الإسلامي، دقّوا ناقوس الخطر لأمتهم، وحذّروا ملوكهم وحكامهم من الخطر الوشيك الذي يتربص بالأمة الإسلامية، وتعالت أصواتهم بالدعوة إلى التعجيل بالإصلاح قبل وقوع الخطر، وكان من هؤلاء الرواد: مصطفى رشيد باشا في تركيا، وميلكم خان في إيران، وأمير علي في الهند، وخير الدين باشا في تونس، وكان جمال الدين الأفغاني أحد هؤلاء الرواد المصلحين الذين وقفوا حياتهم كلها على الدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي، وتحرير شعوبه من الاستعمار والاستغلال.
ولكن كانت دعوة كل واحد من هؤلاء وتأثيره محدودين بحدود بلاده، ولم يكن صوته الإصلاحي يتجاوز أبناء وطنه، أما جمال الدين الأفغاني فقد تجاوز صدى دعوته حدود الأوطان والقوميات، واتسع ليشمل العالم الإسلامي كله.
منــشــؤه
ولد المترجم سنة ( شعبان 1254هـ= أكتوبر 1838م) ، في " أسعد آباد " إحدي القرى التابعة لخطة ( كونار ) من أعمال ( كابل ) عاصمة الأفغان ، ووالده السيد صفدر من سادات ( كنر ) الحسينية ، ويتصل نسبه بالسيد على الترمذي المحدث المشهور ويرتقي إلي سيدنا الحسين ابن على بن أبي طالب كرم الله وجهة ، ومن هنا جاء التعريف عنه بالسيد جمال الدين الحسيني الأفغاني. ولاسرته منزلة عالية في بلاد الأفغان ، لنسبها الشريف ، ولمقامها الاجتماعي والسياسي إذ كانت لها الإمارة والسيادة على جزء من البلاد الأفغانية ، تستقل بالحكم فيه ، إلي أن نزع الإمارة منها " دوست محمد خان " أمير الأفغان وقتئذ ، وأمر بنقل أبي السيد جمال الدين وبعض اعمامه إلي مدينة كابل ، وانتقل المترجم بانتقال أبيه إليها ، وهو بعد في الثامنة من عمره ، فعنى ابوه بتربيته وتعليمه ، على ما جرت به عادة الأمراء والعلماء في بلاده. وكانت مخايل الذكاء ، وقوة الفطرة ، وتوقد القريحة تبدو عليه منذ صباه ، فتعلم اللغة العربية ، والأفغانية ، وتلقى علوم الدين ، والتاريخ ، والنطق ، والفلسفة ، والرياضيات ، فاستوفى حظه من هذه العلوم ، على أيدي أساتذة من اهل تلك البلاد ، على الطريقة المألوفة في الكتب الإسلامية المشهورة ، واستكمل الغاية من دروسه وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره ، ثم سافر إلي الهند ، وأقام بها سنة وبضعة اشهر يدرس العلوم الحديثة على الطريقة الأوربية ، فنضج فكره ، واتسعت مداركه ، وكان بطبعه ميلاً إلي الرحلات ، واستطلاع أحوال الأمم والجماعات ، فعرض له وهو في الهند أن يؤدي فريضة الحج ، فاغتنم هذا الفرصة وقضى سنة ينتقل في البلاد ، ويتعرف احوالها ، وعادة أهلها ، حتى وافى مكة المكرمة ن سنة 1273 هـ ( 1857 م ) ، وأدي الفريضة.
بدء حياته العملية
ثم عاد إلي بلاد الأفغان ، وانتظم في خدمة الحكومة على عهد الأمير " دوست محمد خان " المتقدم ذكره وكان اول عمل له مرافقته إياه في حملة حربية جردها لفتح ( هراة ) ، إحدى مدن الافغان ، وليس يخفى أن النشأة الحربية تعود صاحبها الشجاعة ، واقتحام المخاطر ، ومن هنا تبدو صفة من الصفات العالية ، التي امتاز بها جمال الدين ، وهي الشجاعة ، فإن من يخوض غمار القتال في بداء حياته تألف نفسه الجرأة والإقدام ، وخاصة إذا كان بفطرته شجاعاً.
ففي نشأة المترجم الأولى ، وفي الدور الأول من حياته ، تستطيع ان تتعرف أخلاقه ، والعناصر التي تكونت منها شخصيته ، فقد نشأ كما رأيت من بيت مجيد ، ازدان بالشرف واعتز بالإمارة ، والسيادة ، والحكم ، زمناً ما ، وتربى في مهاد العز ، في كنف أبيه ورعايته ، فكان للوراثة والنشأة الأولى ن أثرهما فيما طبع عليه من عزة النفس ، التي كانت من أخص صفاته ، ولازمته طوال حياته ن وكان للحرب التي خاضها اثرها ايضاً فيما اكتسبه من الأخلاق الحربية ، فالوراثة ن والنشأة ، والتربية ، والمرحلة الأولى في الحياة العملية ، ترسم لنا جانباً من شخصية جمال الدين الأفغاني.
سار المترجم إذن في جيش " دوست محمد خان " لفتح " هراة " ، ولازمه مدة الحصار إلي أن توفي الامير ، وفتحت المدينة بعد حصار طويل ، وتقلد الإمارة من بعده ولى عهده ( شير على خان ) سنة 1864 م ( 1280 هـ ). ثم وقع الخلاف بين الأمير الجديد وأخوته، إذ اراد ان يكيد لهم ويعتقلهم ، فانضم السيد جمال الدين إلي " محمد أعظم " أحد الأخو’ الثلاثة ، لما توسمه فيه من الخير ، واستعرت نار الحرب الداخلية ، فكانت الغلبة لمحمد أعظم ، وانتهت إليه إمارة الأفغان ، فعظمت منزلة المترجم عنده ، وأحله محل الوزير الأول ، وكان بحسن تدبيره يستتب الامر للامير ، ولكن الحرب الداخلية ، ما لبثت ان تجددت ن إذ كان ( شير على ) لا يفتأ يسعى لاسترجاع سلطته ، وكان الإنجليز يعضدونه بأموالهم ودسائسهم ، فأيدوه ونصروه ، ليجعلوه من أوليائهم وصنائعهم ، واغدق ( شير على ) الأموال على الرؤساء الذين كانوا يناصرون الأمير محمد اعظم ، " فبيعت أمانات ونقضت عهود وجددت خيانات " ، كما يقول الأستاذ الغمام الشيخ محمد عبده وانتهت الحرب بهزيمة محمد أعظم، وغلبه شير على ، وخلص له الملك.
بقي السيد جمال الدين في كابل لم يمسسه الأمير بسوء ، " احتراماً لعشيرته وخوف انتفاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي " ، وهنا أيضاً تبدو لك مكانة المترجم ، ومنزلته بين قومه ن وهو بعد في المرحلة الأولى من حياته العامة ، ويتجلى استعداده للاضطلاع بعظائم المهام ، والتطلع إلي جلائل الأعمال ، فهو يناصر أميراً يتوسم فيه الخير ، ويعمل على تثبيته في الإمارة ، ويشيد دولة يكون له فيها مقام الوزير الأول ، ثم لا تلبث اعاصير السياسة والدسائس الغنجليزية أن تعصف بالعرش الذي اقامه ، فيدال من أميره ، ويغلب على أمره ، ويلوذ بإيران لكي لا يقع في قبضة عدوه ، ثم يموت بها ، أما المترجم فيبقى في عاصمة الإمارة ، ولا يهاب بطش الأمير المنتصر ، ولا يتملقه أو يسعى إلي نيل رضاه ، ولا ينقلب على عقبيه كما يفعل الكثيرون من طلاب المنافع ، بل بقي عظيماً في محنته ، ثابتاً في هزيمته ، وتلك لعمري ظواهر عظمة النفس ، ورباطة الجأش ، وقوة الجنان.
وهذه المرحلة كان لها أثرها في الاتجاه السياسي للسيد جمال الدين ن فقد رأيت ما بذلته السياسة ال‘نجليزية لتفريق الكلمة ، ودس الدسائس في بلاد الأفغان ، وإشعال نار الفتن الداخلية بها ، واصطناعها الاولياء من بين أمرائها ، ولا مراء في أن هذه الأحداث قد كشفت للمترجم عن مطامع الإنجليز ، وأساليبهم في الدس والتفريق ، وغرست في فؤاده روح العداء للسياسة البريطانية خاصة ، والمطامع الاستعمارية الأوربية عامة ، وقد لازمه هذا الكره طوال حياته ، وكان له مبدأ راسخاً يصدر عنه في أعماله وآرائه وحركاته السياسية.
رحيله إلي الهند
لم ينفك الامير ( شير على ) يدبر المكايد للسيد جمال الدين ، ويحتال للغدر به فرأى السيد ان يفارق بلاد الأفغان ، ليجد جواً صالحاً للعمل ، فاستأذنه في الحج ، فأذن له ، فسار إلي الهند سنة 1869 م ( 1285 هـ ) ، وكانت شهرته قد سبقته إلي تلك الديار ، لما عرف عنه من العلم والحكمة ، وما ناله من المنزلة العالية بين قومه ن ولم يكن يخفى على الحكومة ال‘نجليزية عداؤه لسياستها ، وما يحدثه مجيئة إلي الهند من إثارة روح الهياج في النفوس ، خاصة لأن الهند كانت لا تزال تضطرم بالفتن على الرغم من إخماد ثورة سنة 1857 ، فلما وصل إلي التخوم الهندية تلقته الحكومة بالحفاوة والإكرام ، ولكنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها ، وجاء أهل العلم والفضل يهرعون إليه ، يقتبسون من نور علمه وحكمته ، ويستمعون إلي احاديثه وما فيها من غذاء العقل والروح ، والحث على الأنفة وعزة النفس ، فنقمت الحكومة منه اتصاله بهم ، ولم تأذن له بالاجتماع بالعلماء وغيرهم من مريديه وقصاده ، إلا على عين من رجالها ، فلم يقم هناك طويلاً ، ثم انزلته الحكومة إحدى سفنها فأقلته إلي السويس.
مجيئه مصر لأول مرة
جاء مصر لأول مرة أوائل سنة 1870 م ( أواخر سنة 1286 هـ ) ، ولم يكن يقصد طول الإقامة بها ، لأنه إنما جاء ووجهته الحجاز ، فلما سمع الناس بمقدمه حتى اتجهت إليه أنظار النابهين من اهل العلم ، وتردد هو على الأزهر ، واتصل به كثير من الطلبة ، فآنسوا فيه روحاً تفيض معرفة وحكمة ، فأقبلوا عليه يتلقون بعض العلوم الرياضية ، والفلسفية ، والكلامية ، وقرأ لهم شرح ( الأظهار ) في البيت الذي نزل به بخان الخليلي ، وأقام بمصر أربعين يوماً ، ثم تحول عزمه عن الحجاز ، وسافر إلي الأستانة.
سفره إلي الأستانة ثم رحيله عنها
وصل السيد جمال الدين إلي الأستانة ، فلقي من حكومة السلطان عبد العزيز حفاوه وإكراماً ، إذ عرف له الصدر الأعظم " عالى باشا " مكانته ، وكان هذا الصدر من ساسة الترك الأفذاذ ، العارفين بأقدار الرجال ، فأقبل على السيد يحفه بالاحترام والرعاية ، ونزل من الأمراء والوزراء والعلماء منزلة عالية ، وتناقلوا الثناء عليه ، ورغبت الحكومة أن تستفيد من علمه وفضله ، فلم تمض ستة أشهر حتى جعلته عضواً في مجلس المعارف ، فاضطلع بواجبه ، وأشار بإصلاح مناهج التعليم ، ولكن آراءه لم تلق تأييداً من زملائه ، واستهدف لسخط شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي ، إذ رأى في تلك الآراء ما يمس شيئاً من رزقه ، فأضمر له السوء ، وارصد له العنت ، حتى كان رمضان سنة 1287 هـ ، (ديسمبر سنة 1870 م ) ، فرغب إليه مدير دار الفنون أن يلقي فيها خطاباً للحث على الصناعات ، فاعتذر باديء بدء بضعفه في اللغة التركية ، فألح عليه ، فأنشأ خطاباً طويلاً كتبه قبل إلقائه ، وعرضه على نخبة من أصحاب المناصب العالية، فأقروه واستحسنوه.
وألقى السيد خطابه بدار الفنون ، في جمع حاشد من ذوي العلم والمكانة ، فنال استحسانهم ، ولكن شيخ الإسلام اتخذ من بعض آرائه مغمزاً للنيل منه بغير حق ، ورميه بالزيغ في عقيدته ، واغتنمها فرصة للإيقاع به ، وألب عليه الوعاظ في المساجد ، وأوعز إليهم أن يذكروا كلامه محفوفاً بالتفنيد والتنديد ، فغضب السيد لمكيدة شيخ الإسلام ، وطلب محاكمته ، ولكن الحكومة انحازت إلي شيخها ، وأصدرت أمرها إلي المترجم بالرحيل عن الأستانة بضعة أشهر ، حتى تسكن الخواطر ، ويهدأ الاضطراب ، ثم يعود إليها أن شاء ، ففارقها مهضوماً حقه ، ورغب إليه بعض مريديه أن يتحول إلي الديار المصرية ، فعمل برأيهم وقصد إليها.
عودته إلي مصر وإقامته بها
جاء السيد جمال الدين إلي مصر في أول المحرم سنة 1288 هـ ( مارس سنة 1871 م ) ، لا على نية الإقامة بها ، بل على قصد مشاهدة مناظرها ، واستطلاع أحوالها ، ولكن ( رياض باشا ) وزير إسماعيل في ذلك الحين رغب إليه البقاء في مصر ، وأجرت عليه الحكومة راتباً مقداره ألف قرش كل شهر ، لا في مقابل عمل ، واهتدى إلي المترجم كثير من طلبة العلم ، يستورون زنده ، ويقتبسون الحكمة من بحر علمه ، فقرأ لهم الكتب العالية في فنون الكلام ، والحكمة النظرية ، من طبيعية وعقلية ، وعلوم الفلك ، والتصوف ، وأصول الفقة ، بأسلوب طريف ، وطريقة مبتكرة ، وكانت مدرسته بيته ، ولم يذهب يوماً إلي الأزهر مدرساً ، وإنما ذهب إليه زائراً ، وأغلب ما يزوره يوم الجمعة ، وكان أسلوبه في التدريس مخاطبة العقل ، وفتح أذهان تلاميذه ومريديه إلي البحث والتفكير ، وبث روح الحكمة والفلسفة في نفوسهم ، وتوجيه أذهانهم إلي الأدب ، والإنشاء ، والخطابة ، وكتابة المقالات الأدبية ، والاجتماعية ، والسياسية ، فظهرت على يده نهضة في العلوم والأفكار أنتجت أطيب الثمرات.
وهنا موضع للتساؤل ، عما حمل الخديوي إسماعيل إلي إستمالتة الحكيم الأفغاني للإقامة في مصر ، وإكرام مثواه ، ويبدو هذا العمل غريباً ، لأن لجمال الدين ماضياً سياسياً ومجموعة اخلاق ومبادئ ، ولا ترغب فيه الملوك المستبدين ، ولم يكن السيد من اهل التملق والدهان ، فينال عطفهم ورعايتهم ، ويجرون عليه الأرزاق بلا مقابل ، ولكن الأمر لا يعسر فهمه إذا عرفنا أن في إسماعيل جانباً ممدوحاً من صفاته الحسنة ، وهو حبه للعلم ، ورغبته في نشره ورعايته ، وكانت شخصية جمال الدين العلمية ، وشهرته في الفلسفة ، أقوى ظهوراً وخاصة في ذلك الحين ، من شخصيتة السياسية ، فلا غرو أن يكرم فيه إسماعيل العالم المحقق ، الذي يفيض على مصر من بحر علمه وفضله ، وفي الحق ان إسماعيل لم يكن يقصر في اغتنام الفرصة لتنشيط النهضة العلمية ورعاية العلماء والأدباء ، فترغيبه جمال الدين في البقاء بمصر يشبه أن يكون فتحاً علمياً ، كتأسيس معهد من معاهد العلم العالية التي أنشئت على يده. أما آراء الحكيم السياسية وكراهيته للاستبداد ن ونزعته الحرة ، فلم يكن مثل إسماعيل يخشاها أو يحسب لها حساياً كبيراً ، لأنه في ذلك الحين ( سنة 1871 ) كان قد بلغ أوج سلطته ومجده ، فكان يحكم البلاد حكماً مطلقاً ، يأمر وينهى ن ويتصرف في أقدار البلاد ومصاير أهلها ، دون رقيب أو حسيب ، وكان مجلس شورى النواب آلة مطواعة في يده ، والصحافة في بدء عهدها تكيل له عبارات المديح ، وتصوغ له عقود الثناء ، ولم يكن سلطانه قد استهدف بعد التدخل الأجنبي ، لأن هذا التدخل لم يقع إلا في سنة 1875 ، كما رأيت في سياق الحديث ، فليس ثمة ما يخشى منه إسماعيل ، على سلطته المطلقة ، من الناحية الداخلية أو الخارجية ، حين رغب إلي حكيم الشرق الإقامة والتدريس في مصر ، وقد بدأت النهضة التي ظهرت على يد السيد ، علمية ، أدبية ، ولم تتطور إلي الناحية السياسية إلا حوالي سنة 1876 ، على أنها في تطورها السياسي لم تتجه ضد إسماعيل بالذات ، بل اتجهت في الجملة ضد التدخل الأجنبي.
وثمة اعتبار آخر ، لا يفوتنا الإلماح إليه ، ذلك أن جمال الدين قد بارح الأستانة ، إذ لم يجد فيها جواً صالحاً للنهضة العلمية ، والفكرية ، وقصد إلي مصر وقد سبقته إليها أنباؤه ، وما لقيه في " دار الخلافة " من العنت والاضطهاد ، وكان إسماعيل ينافس حكومة الأستانة في المكانة والنفوذ السياسي ، وينظر إليها بعين الزراية ، ولا يرضى لمصر أن تكون تابعة لتركيا ، ولا أن يكون هو تابعاً للسلطان العثماني ، وليس خافياً ما كان يبذله من المساعي للانفصال عن تركيا في ذلك الحين ، وظهوره بمظهر العاهل المستقل ، في المعرض العالمي في باريس سنة 1967 ، وفي إغفاله دعوة السلطان إلي حضور حفلات القناة سنة 1869 ، وعزمه على أعلان استقلال مصر التام في تلك الحفلات ، لولا العقبات السياسية التي اعترضته ، ولا يغرب عن الذهن ما كان بين الخديوي والسلطان من مظاهر الفتور والجفاء التي كادت تقطع الروابط بينهما ، وأخصها فرمان نوفمبر سنة 1869 الذي اصدره السلطان منتقصا من سلطة الخديوي.
ففي هذا الجو هبط جمال الدين مصر مبعداً من الأستانة ، فلم يفت ذكاء إسماعيل أن يغتنم الفرصة ليحمي العلم في شخص الفيلسوف الأفغاني ، ولا يخفى ما لهذا العمل من حسن الأثر وجميل الأحدوثة ، إذ يرى الناس فيه أن مصر تؤوي العلماء والحكماء ، حين تضيق عنهم " دار الخلافة " وأن عاهل مصر العظيم أحق من السلطان العثماني بالثناء والتقدير لأنه يفسح للعلم رحابه ، ويوطئ له في وادي النيل أكنافه. وقد يكون لرياض باشا يد في إكرام وفادة المترجم ، ولكن إذا علمنا أن وزراء إسماعيل لم يكونوا يصدرون إلا عن رأيه وأمره ، أدركنا أن رياض باشا لم يكن الرجل الذي ينفرد بهذا الصنيع نحو المترجم ، ومهما يكن واقع الأمر فإن لرياض باشا فضل المشاركة في عمل كان له الأثر البالغ في نهضة مصر العلمية والفكرية والسياسية.
أثره العلمي والأدبي
أقام المترجم في مصر ، وأخذ يبث تعاليمه في نفوس تلاميذه ، فظهرت على يده بيئة ، استضاءت بأنوار العلم والعرفان ، وارتوت من ينابيع الأدب والحكمة ، وتحررت عقولها من قيود الجمود والأوهام ، وبفضله خطا فن الكتابة والخطابة في مصر خطوات واسعة ، ولم تقتصر حلقات دروسه ومجالسه على طلبة العلم ، بل كان يؤمها كثير من العلماء والموظفين والأعيان وغيرهم ، وهو في كل أحاديثه " لا يسأم " كما يقول عنه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، من الكلام فيما ينير العقل ، أو يطهر العقيدة أو يذهب بالنفس إلي معالي الأمور ، أو يستلفت الفكر إلي النظر في الشئون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها ، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلي بلادهم أيام البطالة ، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلي أحيائهم ، فاستيقظت مشاعر وتنبهت عقول ، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصاً في القاهرة ".
وقال الأستاذ الإمام في موطن آخر يصف تطور الكتابة على يد المترجم : " كان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل ، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله باشا فكري ، وخيري باشا ، ومحمد باشا سيد أحمد على ضعف فيه ، ومصطفى باشا وهبي على اختصاص فيه ، ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة ، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها ، ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري ، لا يشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم ، وأغلبهم أحداث في السن ، شيوخ في الصناعة ، وما منهم إلا من أخذ عنه ، أو عن احد تلاميذه ، أو قلد المتصلين به " انتهى كلام الإمام.
فروح جمال الدين كان لها الأثر البالغ في نهضة العلوم والآداب في مصر ، ولا يفوتنا القول بأن البيئة التي كانت مستعدة للرقي ، صالحة لغرس بذور هذه النهضة، وظهور ثمارها ، أو بعبارة أخرى ن ان مصر بما فيها الأزهر ، والمعاهد العلمية الحديثة ، والتقدم العلمي الذي ابتدأ منذ عهد محمد على ، كانت على استعداد لتقبل دعوة الحكيم الأفغاني ، ولولا هذا الاستعداد لقضي على هذه الدعوة في مهدها ، ولأخفق هو في مصر كما أخفق في الأستانة ، حيث وجد ابواب العمل موصدة أمامه ، وهذا يبين لنا جانباً من مكانة مصر ، وسبقها الأقطار الشرقية في التقدم العلمي والفكري والسياسي ، ويزيد هذه الحقيقة وضوحاً أنك إذا استعرضت حياة جمال الدين العامة ، وما تركه من الأثر في مختلف الأقطار الشرقية التي بث فيها دعوته ، وجدت اثره في مصر أقوى وأعظم منه في اي بلد من البلدان الأخرى ، وفي هذا ما يدلك على مبلغ استعداد مصر للنهضة والتقدم ، إذا تهيأت لها اسباب العمل ووجدت القادة والحكماء.
أثره الأخلاقي والسياسي
جاء المترجم إلي مصر يحمل بين جنبيه روحاص كبيرة ، ونفساً قوية ، تزينها صفات وأخلاق عالية ، أنبتتها الوراثة والتربية الأولى ، وهذبتها الحكمة والمعرفة ، ومحصتها الحياة الحربية التي خاض غمارها في بلاد الأفغان ، والتجارب التي مارسها ، والشدائد التي عاناها جاء وفيه من الشمم والإباء ما صدفه عن أن يطأ طأ الرأس أو يقيم على الضيم ، جاء وفيه من الثبات ما جعله يتغلب على العقبات التي اعترضته في أدوار حياته ، فقد رأيت كيف بقي على ولائه للأمير محمد أعظم ، رغم ما أصابه من الهزيمة ولم يخضع لخصمه ( شير على ) ، ورحل إلي الهند ، فلم تطق السياسة الاستعمارية بقاءه فيها وأقصته عنها ، وذهب إلي الأستانة ، فلم يعرف التملق والدهان ، وجهر بالحق ، واستهدف لعداوة شيخ الإسلام ، فلم يتراجع ولم ينكص على عقبيه ، وانتهى الخلاف بإقصائه عن الأستانة.
فهذه الأخلاق التي جاء بها جمال الدين كانت بلا مراء أقوى مما عرف عن المجتمع المصري ، في ذلك العهد ، من خفض الجناح ، والصبرعلى الضيم ، والخضوع للحكام ، وليس يخفى ما للشخصيات الكبيرة من سلطان أدبي على النفوس وما تؤثر فيها من طريق القدوة ، فالسيد جمال الدين بما اتصف به من الأخلاق العالية ، أخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة ، ويحارب روح الذلة والاستكانة ، فكان بنفسيته ودروسه وأحاديثه ،ومناهجه في الحياة ، مدرسة أخلاقية ، رفعت من مستوى النفوس في مصر ، وكانت على الزمن من العوامل الفعالة للتحول الذي بدا على الأمة ن وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلي التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم القديم ومساوئه ، والسخط على تدخل الدول في شؤون البلاد. اسرفت حكومة إسماعيل في القروض ، وبدأت عواقب هذا الإسراف تظهر للعيان رغم ما بذلته الحكومة لإخفائها بمختلف الوسائل ، وأخذت النفوس تتطلع إلي إصلاح نظام الحكم بعد إذا أحست مرارة الاستبداد وهالتها فداحة القروض التي كبلت البلاد بقيود تدخل الدول.
ويمكننا أن نحدد أواخر سنة 1875 ، وأوائل سنة 1876 كمبدأ للتدخل الأوربي ن إذ حدث من مظاهره وقتئذ شراء إنجلترا أسهم مصر في القناة ثم قدوم بعثة المستر " كيف " الإنجليزية لفحص مالية مصر ، ثم توقف الحكومة عن اداء أقساط ديونها ن وما اعقب ذلك كم غنشاء صندوق الدين في مايو سنة 1876 0 فهذا التدخل كان من الأسباب الجوهرية التي حفزت النفوس إلي التبرم بنظام الحكم ، والتخلص من مساوئه ، لأن سياسة الحكومة هي التي أفضت إلي تدخل الدول في شؤون مصر وامتهانها كرامة البلاد واستقلالها 0 ومن هنا جاءت النهضة الوطنية والسياسية ، ووجدت مبادئ حكيم الشرق وتعاليمه سبيلاً إلي النفوس ، فكانت من العوامل الهامة في ظهور هذه النهضة التي شغلت السنوات الأخيرة من عهد إسماعيل وكانت من أعظم أدوار الحركة القومية. كان من مظاهر هذه النهضة نشاط الصحف السياسية ، وإقبال الناس عليها ، وتحدثهم في شؤون البلاد العامة ، وتبرمهم بحالتها السياسية والمالية ، ثم ظهور روح المعارضة والبيقظة في مجلس الشورى ، على يد نواب نفخ فيهم جمال الدين من روحه ، وعلى رأسهم عبد السلام بك المويلحي ( باشا ) ، الذي يعد من تلاميذه الأفذاذ ، وإنك لتلمس الصلة الروحية بينهما ، من الكلمات والعبارات الرائعة التي كان المويلحي يجهر بها في جلسات مجلس شورى النواب ن مما سنذكره في موضعه ، فإن هذه العبارات هي قبس من روح الحكيم الأفغاني.
وقد جاء ذكر النائب المويلحى ضمن تلاميذ جمال الدين ومريديه على لسان سليم بك العنجوري أحد أدباء سورية حين زار مصر ووصف مكانة السيد بقوله : " في خلال سنة 1878 زاد مركزه خطراً وسما مقامه ، لأنه تدخل في السياسات وتولى رئاسة جمعية ( الماسون ) العربية وصار له أصدقاء وأولياء من أصحاب المناصب العالية ، مثل محمود سامي البارودي الذي نفي اخيراً مع عرابي إلي جزيرة سيلان ، وعبد السلام بك المويلحي النائب المصري في دار الندوة ، وأخيه إبراهيم ( المويلحي ) كاتب الضابطة ، وكثر سواد الذين يخدمون افكاره ، ويعلون بين الناس مناره ، من أرباب الأقلام ، مثل الشيخ محمد عبده ، وإبراهيم اللقاني ، وعلى بك مظهر ، والشاعر الزرقاني ، وأبي الوفاء القوني في مصر ، وسليم النقاش ، وأديب إسحق ، وعبد الله النديم في الإسكندرية".
جمال الدين والثورة العرابية
لم يكن جمال الدين الأفغاني مناصراً لإسماعيل ، بل كان ينقم منه استبداده وإسرافه، وتمكينه الدول الاستعمارية من مرافق البلاد وحقوقها ، وكان يتوسم الخير في توفيق ، إذ رآه وهو ولي للعهد ميالاً إلي الشورى ، ينتقد سياسة أبيه وإسرافه ، وقد اجتمعا في محفل الماسونية ، وتعاهدا على إقامة دعائم الشورى.
ولكن توفيق لم يف بعهده بعد أن تولى الحكم ، فقد بدا عليه الانحراف عن الشورى واستمع لوشايات رسل الاستعمار الأوربي ، وفي مقدمتهم قنصل إنجلترا العام في مصر ، إذ كانوا ينقمون من السيد روح الثورة والدعوة إلي الحرية والدستور ، فغيروا عليه قلب الخديوي ، وأوعزوا إليه بإخراجه من القطر المصري ، فأصدر أمره بنفيه ن وكان ذلك بقرار من مجلس النظار منعقداً برآسة الخديوي ، وكان نفيه غاية في القسوة والغدر ، إذ قبض عليه ليلة الأحد سادس رمضان سنة 1296 - 24 أغسطس سنة 1879 ، وهو ذاهب إلي بيته هو وخادمه الأمين

( أبو تراب ) ، وحجز في الضبطية ، ولم يمكن حتى من أخذ ثيابه ، وحمل في الصباح في عربة مقفلة إلي محطة السكة الحديدية ، ومنها نقل تحت المراقبة الشديدة إلي السويس ، وانزل منها إلي باخرة اقلته إلي الهند ، وسارت به إلي بومباي ، ولم تتورع الحكومة عن نشر بلاغ رسمي من غدارة المطبوعات بتاريخ 8 رمضان سنة 1296 ( 26 أغسطس سنة 1879 م ) ذكرت فيه نفي السيد بعبارات جارحة ملؤها الكذب والأفتراء، مما لا يجدر بحكومة تشعر بشيء من الكرامة والحياء أن تسف إليه ، فهي قد نسبت إليه السعي في الأرض بالفساد ، ويعلم الله أنه لم يكن يسعى إلا إلي يقظة الأمة ، وتحريرها من ربقة الذل والعبودية ، وذكرت عنه أنه " رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا " ، وحذرت الناس من الاتصال بهذه الجمعية ، ومن المؤلم حقاً أن يتقرر النفي ويصدر مثل هذا البلاغ من حكومة يرأسها الخديوي توفيق باشا وهو على ما تعلم من سابق تقديره للسيد ، ومن وزرائها محمود باشا سامي البارودي ناظر الأوقاف وقتئذ ، وقد كان من اصدق مريديه وانصاره ، فتأمل كيف يتنكر الأنصار والأصدقاء لأستاذهم ، وإلي أي حد يضيع الوفاء بين الناس !! ، ولا ندري كيف أساغ البارودي نفي السيد جمال الدين واشترك في احتماله تبعته ، وإذغ لم يكن موافقاص على هذا العمل المنكر فَلِمَ لم يستقيل من الوزارة احتجاجاً واستنكاراً ؟ لا شك أن موقف البارودي في هذه الحادثة لا يمكن تسويغه أو الدفاع عنه بأي حال.
نفي جمال الدين من مصر ، على أن روحه ومبادئه وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري وبقيت النفوس ثائرة تتطلع إلي نظام الحكم ، وإقامته على دعائم الحرية والشورى ن فجمال الدين هو من الوجهة الروحية والفكرية أبو الثورة العرابية ، وكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه ، والثورة في ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان لجمال الدين الفضل الكبير في ظهورها على عهد إسماعيل ، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزاً أن يمدها بآرائه الحكيمة ، وتجاربه الرشيدة ، فلا يغلب عليها الخطل والشطط ، ولكن شاءت الأقدار ، والدسائس الإنجليزية ، أن ينفى السيد من مصر ، وهي أحوج ما تكون إلي الانتفاع بحكمته وصدق نظره في الأمور. وأقام المترجم بحيدر أباد الدكن ، وهناك كتب رسالته في الرد على الدهريين ، وألزمته الحكومة البريطانية بالبقاء في الهند حتى انقضى أمر الثورة العرابية.
عمله في أوربا
جريدة العروة الوثقى
اخفقت الثورة العرابية ، واحتل الإنجليز مصر ، فسمحوا للسيد بالذهاب إلي اي بلد فاختار الشخوص إلي أوربا فقصد إليها سنة 1883 ، وأول مدينة وردها مدينة لندن ، وأقام بها أياماً معدودات ، ثم انتقل إلي باريس ، وكان تلميذه الأكبر الشيخ محمد عبده منفياً في بيروت عقب إخماد الثورة ، فاستدعاه إلي باريس ، فوافاه إليها ، وهناك أصدر جريدة (العروة الوثقى ) ، وقد سميت باسم الجمعية التي أنشأتها ، وهي جمعية تألفت لدعوة الأمم الإسلامية إلي الاتحاد والتضامن والأخذ بأسباب الحياة والنهضة ، ومجاهدة الاستعمار ، وتحرير مصر والسودان من الاحتلال ، وكانت تضم جماعة من أقطاب العالم الإسلامي وكبرائه وهي التي عهدت إلي السيد بإصدار الجريدة لتكون لسان حالها.
واشتركا معاً في تحريرها ، وكانت مقالاتها جامعة بين روح جمال الدين ، وقلم الأستاذ الإمام ، فجاءت آيات بينات سمو المعاني ، وقوة الروح ن وبلاغة العبارة ، وهي اشبه ما تكون بالخطب النارية ، تستثير الشجاعة في نفوس قارئها ، وتداني في روحها وقوة تأثيرها اسلوب الإمام على كرم الله وجهه في خطبه الحماسية المنشورة في " نهج البلاغة ط ، ولا غرو فالسيد جمال الدين هو قبس من نور العترة الحسينية العلوية ، فكأن روح الإمام على تمثلت فيه ، وتجلى أثرها فيما يكتبه أو يمليه. اتخذت العروة شعارها إيقاظ الأمم الإسلامية ، والمدافعة عن حقوق الشرقيين كافة ، ودعوتهم إلي مقاومة الاستعمار الأوربي ن والجهاد في سبيل الحرية والاستقلال.
وقد ذاع شأنها في العالم الإسلامي ن وأقبل عليها الناس في مختلف الأقطار ، ولكن الحكومة الإنجليزية أقفلت دونها ابواب مصر والهند ، وشددت في مطاردتها واضطهاد من يقرؤها ، وبلغ بها السعي في مصادرتها أن اوعزت إلي الحكومة المصرية بتغريم كل من توجد عنده العروة الوثقى خمسة جنيهات مصرية إلي خمسة وعشرين جنيهاً ، وأقامت الموانع دون استمرارها ، فلم يتجاوز ما نشر منها ثمانية عشر عدداً . قضى جمال الدين في باريس ثلاث سنوات ، كان لا يفتأ خلالها بنشر المباحث والمقالات الهامة في مقاومة اعتداء الدول الأوربية على الأمم الإسلامية ، ويراسل تلاميذه ومريديه في مصر.
جمال الدين ورينان
وجرت له أبحاث مع الفيلسوف إرنست رينان Renan في العالم الإسلامي ن وأكبر فيه رينان عبقريته ، وسعة علمه ن وقوة حجته ، وقال عنه : " كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن سينا ، أو ابن رشد ، أو واحد من أساطين الحكمة الشرقيين ".
عمله في فارس ثم نفيه منها
ثم أخذ يتنقل بين باريس ولندن إلي أوائل فبراير سنة 1886 ( جمادي الأولى سنة 1303 ) وفيه ذهب إلي بلاد فارس ثم إلي روسيا. ولما كان معرض باريس سنة 1889 ، رجع جمال الدين إليها ، وفي عودته منها التقى بالشاه في ميونخ عاصمة بافاريا ، فدعاه إلي صحبته إذ كان يرغب في الانتفاع بعلمه وتجاربه ، فأجاب الدعوة ، وسار معه إلي فارس ، وأقام في طهران ، فحفه علماء فارس وأمراؤها وأعيانها بالرعاية والإجلال. واستعان به الشاه على إصلاح أحوال المملكة ، وسن لها القوانين الكفيلة بإصلاح شئونها ، ولكنه استهدف لسخط أصحاب النفوذ في الحكومة ، وخاصة الصدر الأعظم ، فوشوا به عند الشاه ، واسر إليه الصدر الأعظم أن هذه القوانين تؤول إلي انتزاع السلطة من يده ، فأثرت الوشايات في نفس الشاه ، وبدأ يتنكر للسيد ن فاستاذنه في المسير إلي المقام المعروف " بشاه عبد العظيم " على بعد عشرين كيلو متر من طهران ، فاذن له ، فوافاه به جم غفير من العلماء والوجهاء من انصاره في دعوة الإصلاح ، فازدادت مكانته في البلاد ، وتخوف الشاه عاقبة ذلك على سلطانه ن فاعتزم الإساءة إليه ، ووجه إلي " الشاه عبد العظيم " خمسمائة فارس قبضوا عليه ن وكان مريضاً ، فانتزعوه من فراشه ن واعتقلوه ، وساقه خمسون منهم إلي حدود المملكة العثمانية منيفاً ، فنزل بالبصرة ، فعظم ذلك على مريديه ، واشتدت ثورة السخط على الشاه.
دعوة جمال الدين ضد الشاه
أقام السيد بالبصرة زمناً حتى أبل من مرضه ، ثم أرسل كتاباً إلي كبير المجتهدين في فارس ميرزا محمد حسن الشيرازي ، عدد فيه مساوئ الشاه ، وخص بالذكر تخويله إحدى الشركات الإنجليزية حق احتكار التباك في بلاد فارس ، وما يفضي إليه من استئثار الأجانب بأهم حاصلات البلاد ، وكان هذا النداء من أعظم الأسباب التي جعلت كبير المجتهدين يفتي بحرمة استعمال التنباك إلي أن يبطل الامتياز ، فاتبعت الامة هذه الفتوى ، وامسكت عن تدخينه ، واضطر الشاه خوف انتقاض الأمة إلي إلغائه ، ودفع للشركة الإنجليزية تعويضاً فخلصت فارس من التدخل الأجنبي.
شخوصه إلي أوربا
مكث جمال الدين بالبصرة ريثما عادت إليه صحته ، ثم شخص إلى لندن، فتلقاه الإنجليز بالإكرام، ودعوه إلى مجتمعاتهم السياسية والعلمية ، وحمل على الشاه وسياسته حملات صادقة فى مجلة سماها (ضياء الخافقين) ، ودعا الأمة الفارسية إلى خلعه ، وقويت دعوته الحرية في إيران ، واشتد السخط على الشاه ناصر الدين إلى أن قتل سنة 1896 بيد فارسي أهوج ، وقيل أن للسيد دخلاً في التحريض على قتله ، وتولى بعده مظهر الدين ، واستمرت دعوة الحرية التي غرسها جمال الدين في إيران تنمو وتترعرع حتى آلت إلى إعلان الدستور الفارسى سنة 1906.

ذهابه إلى الاستانه وإقامته بها
وفيما هو بلندن ورد عليه كتاب آخر بتكرار دعوته فلبى الطلب وذهب إلي الأستانة سنة 1892 ، وكانت هذه المره الثانية لوروده هذه المدينة ، والمره الأولى كانت في عهد السلطان عبد العزيز كما تقدم بيانه ، وقد يبدو غريباً أن السلطان عبد الحميد الذي كان نصيراً للاستبداد وخصيماً للحرية ، يدعوا إلي جواره أكبر زعيم للحرية في الشرق ، وأغلب الظن أنه أراد أن يخدم سياسته في الجامعة الإسلامية باستضافته فيلسوف الإسلام ، لكي يظهر للعالم الإسلامي أنه يرعى العلم والعلماء من الأمم الإسلامية كافة ، وقد لبى جمال الدين دعوته ، آملاً أن يرشده إلي إصلاح الدولة العثمانية ، لأن مقصده السياسي هو انهاض دولة إسلامية أياً كانت إلي مصاف الدول العزيزة القوية ، فسارإلي الأستانه لتحقيق هذا المقصد ، وحفه عبد الحميد بالرعاية والإكرام وانزله منزلاً كريماً في قصر بحي ( نشان طاش ) ، من أفخم أحياء الأستانة ، وأجرى عليه راتباً وافراً ، قيل أنه خمس وسبعون ليرة عثمانية في الشهر ، ومضت مدة وجمال الدين له عند السلطان منزلة عاليه ؛ ثم ما لبث أن تنكر له ، واساء به الظن ، إذ كان من أخص صفات عبد الحميد إسائة الظن بالناس كافة ، وخاصةً بمن يتصلون به ، والاستماع إلي الوشايات والدسائس ، وكان الشيخ أبو الهدى الصيادي الذي نال الحظوة الكبرة عند مولاة يكره أن يظفر أحد بثقته فوشي بالسيد عند السلطان وأوغر عليه صدره فاحيط السيد بالجواسيس يحصون عليه غدواته وروحاته ، ويرقبون حركاته وسكناته.
ذكر الأمير شكيب أرسلان في هذا الصدد في كتاب ( حاضر العالم الإسلامي ) أن السيد كان وعبد الله نديم الكاتب والخطيب المصلاي المشهور في متنزه ( الكاغدخانة ) ، فصادفا الخديوي عباس حلمي وسلم بعضهم على بعض ، وتحادثوا نحو ربع ساعة تحت شجرة هناك ، فقيل أن الشيخ أبا الهدى قدم تقريرا للسلطان بأن جمال الدين وعبد الله نديم توعدا مع الخديوي على الاجتماع في ، الكاغدخانة )، وهناك عند الاجتماع بايعاه تحت الشجرة ، ويقول الامير شكيب أن السلطان بحسب قول جمال الدين لم يحفل بهذه الوشاية ، ولكنا نميل إلي الأعتقاد أنها تركت أثراص في نفسه ، وغيرت قلبه على السيد ، وذكر أن الذي أدى إلي وحشة السلطان منه استمراره في مجالسه على القدح في شاه العجم ناصر الدين ، مما حمل سفير إيران على الشكوى منه إلي السلطان ، فستدعاه ، وطلب إليه الكف عن مهاجمة الشاه فقبل ، ولكن حدث أن قتل الشاه سنة 1896 ، فاشتدت الريبة في جمال الدين ، واتجهت إليه شبهة التحريض على قتله ، فأمر السلطان بتشديد الرقابة عليه ، ومنع أي أحد من الاختلاط به إلا بإرادة سلطانية ، فأصبح السيد محبوساً في قصره.
مرضه ووفاته
تواترت الروايات بأن جمال الدين مات شبه مقتول ، وتدل الملابسات والقرائن على ترجيح هذه الرواية ، فإن اتهامه بالتحريض على قتل الشاه ، وتغيير السلطان عليه ، وحبسه في قصره ، ووشايات أبي الهدى الصيادي ، مما يقرب إلي الذهن فكرة التخلص منه باية وسيلة ، هذا إلي أن الغدر والأغتيال كانا من الأمور المألوفة في الأستانة. واصدق الروايات واحقها بالثقة فيما نعتقد ، وما ذكره الأمير شكيب أرسلان في كتاب ( حاضر العالم الإسلامي ) ، قال ما خلاصته : أنه لما اشتد التضييق على السيد جمال الدين أرسل إلي مستشار السفارة الإنجليزية يطلب منه إيصاله إلي باخرة يخرج بها من الأستانة ، فجاءه المستشار وتعهد له بذلك ، فلما بلغ السلطان الخبر أرسل إليه أحد حجابه يستعطفه أن لا يمس كرامته إلي هذا الحد ولا يتلمس حماية أجنبية فثارت في نفسه الحمية والأنفة ، وأخبر مستشار السفارة بأنه عدل عن السفر ، ومهما كان فليكن ، ولكن الرقابة عليه بقيت كما كانت ، وبعد أشهر من هذه الحادثة ظهر في فمه مرض السرطان ، فصدرت الإرادة السلطانية باجراء عملية جراحية يتولاها الدكتور قمبور زادة إسكندر باشا كبير جراحي القصر السلطاني ، فأجرى له العملية الجراحية فلم تنجح ، وما لبث إلا أياماً قلائل حتى فاضت روحه ، ومن هنا تقول الناس في قصة هذا السرطان ، وهذه العملية الجراحية ، لقرب عهد المرض بتغير السلطان على السيد ، وما كان معروفاً من وساوس عبد الحميد ، فقيل أن العملية الجراحية لم تعمل على الوجه اللازم لها عمداً ، وقيل لم تلحق بالتطهيرات الواجبة فنياً ، بحيث انتهت بموت المريض.

وذكر الأمير شكيب أن المستشرق المعروف الكونت ( لاون استروروج ) حدثه أن المترجم كان صديقة ، فدعاه إليه بعد إجراء العملية الجراحية وقال له إن السلطان أبى أن يتولى العملية إلا جراحه الخاص ، وإنه هو رأي حال المريض إذدادت شدة بعد العملية ، ورجا منه أن يرسل إليه جراحاً فرنساوياً مستقل الفكر طاهر الذمة ، لينظر في عقبى العملية ، فأرسل إليه الدكتور ( لاردي ) فوجد أن العملية لم تجر على وجهها الصحيح ، ولم تعقبها التطهيرات اللزمة ، وأن المريض قد أشفى بسبب ذلك ، وعاد إلي استروروج ، وأنبأه بهذا الأمر المحزن ، ولم تمض أيام حتى فارق جمال الدين الحياة.
وذكر أحد ممن كانوا في خدمة عبد الحميد ، بعد أن روى له الأمير هذه القصة أن قمبور زاده إسكندر باشا كان أطهر وأشرف من أن يرتكب مثل تلك الجريمة ، وحقيقة الواقعة أنه كان بالأستانة طبيب اسنان عراقي أسمه ( جارح ) يتردد كثيراً على جمال الدين ، ويعالج اسنانه ، وكانت نظارة الضابطة ( إدارة الأمن العام ) قد استمالت ( جارح ) هذا بالمال ، وجعلته جاسوس على السيد ، وصار له عدواص في ثياب صديق ، وقال صاحب هذه الرواية أنه أراد مرة أن يمنع الطبيب المذكور من الاختلاط بجمال الدين ، فأشار إليه ناظر الضابطة إشارة خفية بان يتركه ، وفهم من الإشارة أن يذهب إلي السيد ويعالج اسنانه ، بعلم من النظارة ، والسيد لا يعلم بشيء من ذلك ، ويطمئن إلي ( جارح ) ويثق به ، ولم تمض عدة أشهر على حادثة الشاه حتى ظهر السرطان في فك السيد من الداخل ، وأجريت له عملية جراحية فلم تنجح ، وجارح هذا ملازم للمريض ، وبعد موته كانوا يرونه دائماً حزيناً، يبدو على وجهه الوجوم والخزى ، مما جعلهم يشتبهون أن يكون له يد في إفساد الجرح بعد العملية ، أو في توليد المرض نفسه من قبل بوسيلة من الوسائل ، ولما مات السيد بدا الندم على الطبيب الأثيم ، وشعر بوغز الضمير يؤنبه على خيانته هذا الرجل العظيم. وكانت وفاته صبيحة الثلاثاء 9 مارس سنة 1897 ، وما أن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقياً عنده ، وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش فدفن كما يدفن اقل الناس شأنا في تركيا ، ولا يزال قبره هناك.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
جمال الدين الأفغاني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: قسم التعليم :: شخصيات تاريخية-
انتقل الى: